بشار الأسد الرئيس الذي أسقط نظامه
أواخر السبعينيات أنتج الأميركيون فيلماً وثائقيا عن مدى تحقق نبوءات نوستراداموس المتنبئ الفرنسي الذي عاش في القرن الخامس عشر. عرض الفيلم عدداً كبيراً من التنبؤات التي تحققت فعلاً كالحرب العالمية الأولى والثانية، وزلزال سان فرانسيسكو (أثناء حياة نوستراداموس لم تكن أميركا مكتشفة بعد، أو أن اكتشافها كان في بداياته). توقف المعلق في الفيلم عند نبوءة لنوستراداموس حول انهيار الاتحاد السوفياتي، على اعتبار أنه تنبأ بقيام دولة عظمى في آسيا وأوروبا تشتهر بالإلحاد الرسمي وتناهض «العالم المسيحي». وكان نوستراداموس قد تنبأ بانهيار هذه الدولة انهياراً تاماً في نهاية القرن العشرين.
قال المعلق في الفيلم الوثائقي اننا تقريباً في نهاية القرن العشرين ولا يوجد عاقل واحد يتصور أن الاتحاد السوفياتي سينهار، لذلك فإن هذه النبوءة تعتبر واحدة من هفوات نوستراداموس الكبرى. بعد سنوات قليلة من هذا الفيلم، بدأ الاتحاد السوفياتي ينهار، محققا بذلك نبوءة نوستراداموس. أردت من هذه القصة الإشارة إلى أن الأنظمة القوية المتجذرة في تربة الواقع يمكن ان تنهار انهياراً مفاجئاً وسريعاً. لكن هناك دائماً شرطاً ضرورياً لهذا الانهيار: وجود قوة حقيقية قادرة على انجاز هذا الانهيار التاريخي. الأمر المدهش أيضاً في حالة الاتحاد السوفياتي ان القوة التي قامت بهدم النظام هي أقوى قوة كانت موجودة، بل هي القوة الوحيدة الموجودة قوة النظام ذاته. إنه من نوع التحول الذاتي أو التغيير الذاتي (أو ربما الانتحار) الذي هو من أقوى أنواع التغيير على الإطلاق. في سوريا لم يكن الأمر كذلك. عملية التغيير جاءت مفروضة، وإن كان النظام نفسه مستعداً لقبول هذا التغيير بحدود معينة. الرئيس يريد... إسقاط النظام
هناك تشابه كبير بين بشار الأسد وغورباتشيف في ما يخص تعامل كل منهما مع نظامه السياسي. الشبه الأساس هو في الأمور التالية: 1 ـ أن كلاً منهما قام بتغيير نظامه، 2 ـ أن كلاً منهما بقي متزعماً للنظام الجديد كما كان متزعماً للنظام القديم، 3 ـ أن كلاً منهما كان مقتنعاً بما يفعله،
هذه القناعة يؤكدها التاريخ السياسي للرجلين. كان غورباتشيف يؤكد على الاصلاح منذ توليه رئاسة اللجنة المركزية للحــزب الشــيوعي قبيــل المؤتمر السادس والعشرين (1986)، وإن استخدم تعبير إصلاح النظام وليس تغييره. بشار الأسد منذ اعتلائه سدة السلطة عام /2000/ كان واضحا في رغبته بالتغيير البنيوي على الرغم من أنه، مثل غورباتشيف، استخدم مصطلح إصلاح النظام. بل إنه غالباً ما أصر على مصطلح تطوير النظام، والتطوير أكثر تطرفاً من الإصلاح لأنه يتضمن معنى التغيير. ظن البعض أن بشار تنصل من طروحاته الجريئة التي عرضها في خطابه الأول عام /2000/، لكنه قال في محاولة لتبرير تأجيل التغيير ما معناه: أنا لم أطرح برنامج عمل لكنني أردت ان تتعرفوا على طريقة تفكيري. ومن المعروف أن «طريقة التفكير» أكثر أهمية في السياسة من «برنامج العمل» لأنها حامل والبرنامج محمول.
ما دامت طريقة تفكير بشار تغييرية فهذا يعني أن «الحركة المسلحة» داخل سوريا ليست هي التي فرضت عليه التغيير، وإنما فقط فرضت عليه التوقيت. التغيير كان موجودا في «طريقة تفكيره» ولعله كان واضحاً في التعبير عن هذه الحقيقة، عندما استشهد في خطابه الأول بعد اندلاع الأحداث في سوريا بالآية الكريمة «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».
كان وجهه مرتاحاً جداً ولغة جسده تدل على هذا الارتياح لأن ما كان يريد ان يفعله جاء وقته وإن كان ذلك المجيء عبر العنف. قاعدة غير صحيحة أما لماذا لم يفعل ذلك من قبل؟ فلعلها واحدة من أخطائه الكبرى، وهو الرئيس الذي يعترف دائماً بأن لديه أخطاء، مخترقاً بذلك تقليداً عربياً راسخاً من أن الرئيس أو الملك أو الأمير لا يخطئ أبداً.
قد يكون للرجل مبرراته، لكنه التزم بقاعدة (أعتقد أنها خاطئة) قام عليها النظام السوري منذ العام 1970. تقول هذه القاعدة أن الاصلاح الداخلي قد يضعف البلد في مواجهاته الخارجية الكبرى. هذه قاعدة خاطئة بالتأكيد، وقد التزم بها قادة بارزون كجمال عبد الناصر وحافظ الأسد. الإصلاح الداخلي ضروري لتقوية التعامل مع الخارج، حتى لو أدى هذا الإصلاح إلى توترات واهتزازات اجتماعية، لأن البديل هو ازدياد الضغط والكبت في المجتمع، وهما طريق الانفجار. الداخل حامل والخارج محمول، هذه هي القاعدة التي ينبغي الالتزام بها دائماً.
كيف أسقط الأسد نظامه؟
الفارق الكبير بين بشار وغورباتشيف هو أن الزعيم الروسي قام بتغيير نظامه بنيويا ووظيفيا بينما اكتفى بشار بالتغيير البنيوي، محتفظاً بوظيفية النظام، ومؤكداً على ثباتها. لقد غير غورباتشيف توجهات السياسة الخارجية لروسيا بالكامل ثم تبعه يلتسين ليذهب أكثر منه في هذا الاتجاه، واليوم يحاول بوتين استعادة ما يمكن استعادته من وظيفية النظام السوفياتي في السياسة الدولية، أي ظهور روسيا كقطب عالمي فاعل. لشرح مسألة التحول البنيوي والتحول الوظيفي يجدر أولاً تعريف النظام السياسي تعريفا يسهم في إلقاء ضوء على ما أنا بصدده من تحليل. النظام السياسي هو تنظيم مجمل الحياة السياسية في بلد ما. الحياة السياسية تعني ثلاثة أمور: 1 ـ المؤسسات. 2 ـ القوى السياسية. 3 ـ شبكة العلائق السياسية.
والنظام السياسي هو، مثل كل نـظام، عبارة عن وحدة تجمع بنية معينة ووظيفة معينة. البنية مجموع من العناصر وشبكة محددة من العلاقات بينها في إطار تركيب معين. العناصر نوعان: قوى سياسية ومؤسسات سياسية. أما الوظيفة فهي التوجه العام للنظام داخليا وخارجيا، أي مجمل مواقفه وسياساته. الدستور هو الوثيقة التي تحدد البنية أي تحدد موقع ودور القوى السياسية وطريقة تكوين السلطة والمؤسسات، لكنها لا تحدد الوظيفة. وقد نرى دستورين متشابهين في بلدين مع اختلاف كبير في الناحية الوظيفية لنظام كل منهما السياسي. الوظيفية تستند إلى عوامل أخرى ليس لها علاقة بشكلانية الدستور، كمستوى التطور الاقتصادي والقوة العسكرية والموقع الجيوسياسي ورغبة القوى الحاكمة. قد يكون هناك تطابق دستوري (أي في بنية النظام السياسي) بين فرنسا والسنغال مثلا، لكن هناك فرقا وظيفيا كبيرا بين النظامين. بل ان وظيفية النظام السياسي الفرنسي نفسه قد تتغير عندما يستلم السلطة الاشتراكيون او الجمهوريون مع بقاء البنية على حالها. ديغول مثلا قام بتجميد عضوية فرنسا في القيادة العسكرية لحلف «الناتو» وأقام نهجاً سياسيا دوليا مستقلا عن الغرب، بينما أعاد من أتوا بعده الارتباط الوثيق بين فرنسا والأسرة الأطلسية.
الأمر هنا لا يتعلق «بالسياسة الجارية» وإنما بوظيفية النظام نفسه. أجرى بشار تغييرا نوعياً في بنية النظام السياسي، وهو من وجهة نظر العلوم السياسية والمنطق السياسي أسقط نظامه تماما عبر الدستور الجديد الذي يتناقض مع الدستور القديم في منطلقاته الأساسية، أي في حقوق الوصول إلى السلطة ونهج الوصول إلى السلطة وفي حقوق القوى السياسية المختلفة وأدوارها. إنه تغيير في البنية، بمعنى تغيير في مواقع وأدوار العناصر المكونة وشبكة العلاقات بينها. من حيث علم السياسية ومنطق السياسة لا يختلف النظام السوري الجديد عن نظام فرنسا أو روسيا أو أي بلد فيه نظام شبه رئاسي. ويمكن لأي باحث أن يقارن بين الدساتير الثلاثة فسيجد أن الأصول والمنطلقات و«طريقة التفكير» واحدة وهي أصول ومنطلقات الديموقراطية المعاصرة مع كل حسناتها... وعيوبها.
أين المشكلة إذًا؟ ما دام بشار قد قام بالتغيير البنيوي لنظامه، فلماذا ما زال الغرب يعامله كطائر يغرد خارج السرب؟ مشكلة الرئيس السوري أنه قام بتغيير البنية، لكنه حافظ على وظيفية النظام، وأصر وما زال يصر عليها. الغرب يريد العكس تماماً: تغيير البنية كسبيل لتغيير الوظيفية. بل أكثر من ذلك، بالنسبة للغرب كان بشار يستطيع الاحتفاظ بالبنية القديمة، بل كان مسموحاً له ان يتحول إلى مستبد متسلط إلى الأبد، لو أنه غيّر وظيفية النظام. لقد دعم الغــرب بقــوة نظــام الديكتــاتور بيــنوشيه في تشيلي ضد نظــام سلفادور أليندي الديموقراطي لأن بينوشيه غير وظيفية النظام لصالح الولايات المتحدة. ويدعم الغرب اليوم أنظمة في المنطقة لأن وظيفيتها مناسبة لمصالحه على الرغم من أنها ـ من حيث البنية أي من حيث النظام السياسي ـ ليس لها علاقة بالأنماط السياسية في عالمنا المعاصر. أنظمة لا ينطبق عليها أي معيار من معايير الأنظمة السياسية المعاصرة. وهي أنظمة استبدادية بشكل فاق ديكتاتوريات أميركا اللاتينـية والدول الشـيوعية نوعياً. يصر بشار على ثبات وظيفية النظام في سياساته الإقليمية والدولية المعادية لتوجهات الغرب وسياساته، خاصة تلك التي تركز على الدعم المطلق لإسرائيل والعداء الحاد للمقاومة العربية. تمرد بشار على الغرب وسياساته، يعتبر حالة مدرسية مدهشة في عالم القطب الواحد. كل السوريين يعترفون بهذا، لكن هناك بعض السوريين الذين يقولون: ماذا لو أصبحنا أتباعاً للغرب مثل غيرنا، أليس هذا أفضل من الوقوف في وجه التيار؟ لعل هذا تساؤل قابل للنقاش في السبعينيات مثلاً،
وهو المنطق الذي برر فيه السادات توجهه نحو الغرب. لكن اليوم أصبح هذا التساؤل عبثياً حتى من وجهة نظر برغماتية، فجميع الدول ذات البنية الشبيهة بسوريا لم تصل حتى عتبة الازدهار الموعود، على الرغم من أنها وقعت اتفاقات مع إسرائيل إرضاء للغرب. كانت تجارتهم خاسرة، إذ إنهم أعطوا كل شيء ولم يحصلوا على شيء، بل ان سوريا اليوم غير مديونة، ودولهم تئن تحت وطأة الديون، في الوقت الذي يعيش فيه الفقير السوري بمستوى معيشي أفضل بكثير من فقراء الدول الموقعة. الخبز أرخص وأفضل، وكذلك العناية الصحية، ويستطيع الفقير السوري الذي عنده عشرة أولاد، أن يصبح نصفهم أطباء ونصفهم مهندسين من دون أن يكلفه ذلك قرشاً واحداً. هنا يجدر الانتقال إلى وظيفية النظام داخليا، أي أسس سياساته الاقتصادية والاجتماعية. هنا أيضا يبدو ثبات بشار وإصراره على الحلول الاقتصادية والاجتماعية غير الليبرالية، وإن كانت رأسمالية، بل إن هناك توجهاً لدى النظام لمعالجة نتائج الشطط الليبرالي الذي أتبعته حكومة العطري في العقد السابق، خاصة أن الليبرالية تتراجع على المستوى العالمي. هذه الوظيفية ايضا ليس لها علاقة مباشرة ببنية النظام السياسي، فالسويد وكندا الرأسماليتان أكثر اشتراكية واجتماعوية من سوريا مثلاً.
قال المعلق في الفيلم الوثائقي اننا تقريباً في نهاية القرن العشرين ولا يوجد عاقل واحد يتصور أن الاتحاد السوفياتي سينهار، لذلك فإن هذه النبوءة تعتبر واحدة من هفوات نوستراداموس الكبرى. بعد سنوات قليلة من هذا الفيلم، بدأ الاتحاد السوفياتي ينهار، محققا بذلك نبوءة نوستراداموس. أردت من هذه القصة الإشارة إلى أن الأنظمة القوية المتجذرة في تربة الواقع يمكن ان تنهار انهياراً مفاجئاً وسريعاً. لكن هناك دائماً شرطاً ضرورياً لهذا الانهيار: وجود قوة حقيقية قادرة على انجاز هذا الانهيار التاريخي. الأمر المدهش أيضاً في حالة الاتحاد السوفياتي ان القوة التي قامت بهدم النظام هي أقوى قوة كانت موجودة، بل هي القوة الوحيدة الموجودة قوة النظام ذاته. إنه من نوع التحول الذاتي أو التغيير الذاتي (أو ربما الانتحار) الذي هو من أقوى أنواع التغيير على الإطلاق. في سوريا لم يكن الأمر كذلك. عملية التغيير جاءت مفروضة، وإن كان النظام نفسه مستعداً لقبول هذا التغيير بحدود معينة. الرئيس يريد... إسقاط النظام
هناك تشابه كبير بين بشار الأسد وغورباتشيف في ما يخص تعامل كل منهما مع نظامه السياسي. الشبه الأساس هو في الأمور التالية: 1 ـ أن كلاً منهما قام بتغيير نظامه، 2 ـ أن كلاً منهما بقي متزعماً للنظام الجديد كما كان متزعماً للنظام القديم، 3 ـ أن كلاً منهما كان مقتنعاً بما يفعله،
هذه القناعة يؤكدها التاريخ السياسي للرجلين. كان غورباتشيف يؤكد على الاصلاح منذ توليه رئاسة اللجنة المركزية للحــزب الشــيوعي قبيــل المؤتمر السادس والعشرين (1986)، وإن استخدم تعبير إصلاح النظام وليس تغييره. بشار الأسد منذ اعتلائه سدة السلطة عام /2000/ كان واضحا في رغبته بالتغيير البنيوي على الرغم من أنه، مثل غورباتشيف، استخدم مصطلح إصلاح النظام. بل إنه غالباً ما أصر على مصطلح تطوير النظام، والتطوير أكثر تطرفاً من الإصلاح لأنه يتضمن معنى التغيير. ظن البعض أن بشار تنصل من طروحاته الجريئة التي عرضها في خطابه الأول عام /2000/، لكنه قال في محاولة لتبرير تأجيل التغيير ما معناه: أنا لم أطرح برنامج عمل لكنني أردت ان تتعرفوا على طريقة تفكيري. ومن المعروف أن «طريقة التفكير» أكثر أهمية في السياسة من «برنامج العمل» لأنها حامل والبرنامج محمول.
ما دامت طريقة تفكير بشار تغييرية فهذا يعني أن «الحركة المسلحة» داخل سوريا ليست هي التي فرضت عليه التغيير، وإنما فقط فرضت عليه التوقيت. التغيير كان موجودا في «طريقة تفكيره» ولعله كان واضحاً في التعبير عن هذه الحقيقة، عندما استشهد في خطابه الأول بعد اندلاع الأحداث في سوريا بالآية الكريمة «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم».
كان وجهه مرتاحاً جداً ولغة جسده تدل على هذا الارتياح لأن ما كان يريد ان يفعله جاء وقته وإن كان ذلك المجيء عبر العنف. قاعدة غير صحيحة أما لماذا لم يفعل ذلك من قبل؟ فلعلها واحدة من أخطائه الكبرى، وهو الرئيس الذي يعترف دائماً بأن لديه أخطاء، مخترقاً بذلك تقليداً عربياً راسخاً من أن الرئيس أو الملك أو الأمير لا يخطئ أبداً.
قد يكون للرجل مبرراته، لكنه التزم بقاعدة (أعتقد أنها خاطئة) قام عليها النظام السوري منذ العام 1970. تقول هذه القاعدة أن الاصلاح الداخلي قد يضعف البلد في مواجهاته الخارجية الكبرى. هذه قاعدة خاطئة بالتأكيد، وقد التزم بها قادة بارزون كجمال عبد الناصر وحافظ الأسد. الإصلاح الداخلي ضروري لتقوية التعامل مع الخارج، حتى لو أدى هذا الإصلاح إلى توترات واهتزازات اجتماعية، لأن البديل هو ازدياد الضغط والكبت في المجتمع، وهما طريق الانفجار. الداخل حامل والخارج محمول، هذه هي القاعدة التي ينبغي الالتزام بها دائماً.
كيف أسقط الأسد نظامه؟
الفارق الكبير بين بشار وغورباتشيف هو أن الزعيم الروسي قام بتغيير نظامه بنيويا ووظيفيا بينما اكتفى بشار بالتغيير البنيوي، محتفظاً بوظيفية النظام، ومؤكداً على ثباتها. لقد غير غورباتشيف توجهات السياسة الخارجية لروسيا بالكامل ثم تبعه يلتسين ليذهب أكثر منه في هذا الاتجاه، واليوم يحاول بوتين استعادة ما يمكن استعادته من وظيفية النظام السوفياتي في السياسة الدولية، أي ظهور روسيا كقطب عالمي فاعل. لشرح مسألة التحول البنيوي والتحول الوظيفي يجدر أولاً تعريف النظام السياسي تعريفا يسهم في إلقاء ضوء على ما أنا بصدده من تحليل. النظام السياسي هو تنظيم مجمل الحياة السياسية في بلد ما. الحياة السياسية تعني ثلاثة أمور: 1 ـ المؤسسات. 2 ـ القوى السياسية. 3 ـ شبكة العلائق السياسية.
والنظام السياسي هو، مثل كل نـظام، عبارة عن وحدة تجمع بنية معينة ووظيفة معينة. البنية مجموع من العناصر وشبكة محددة من العلاقات بينها في إطار تركيب معين. العناصر نوعان: قوى سياسية ومؤسسات سياسية. أما الوظيفة فهي التوجه العام للنظام داخليا وخارجيا، أي مجمل مواقفه وسياساته. الدستور هو الوثيقة التي تحدد البنية أي تحدد موقع ودور القوى السياسية وطريقة تكوين السلطة والمؤسسات، لكنها لا تحدد الوظيفة. وقد نرى دستورين متشابهين في بلدين مع اختلاف كبير في الناحية الوظيفية لنظام كل منهما السياسي. الوظيفية تستند إلى عوامل أخرى ليس لها علاقة بشكلانية الدستور، كمستوى التطور الاقتصادي والقوة العسكرية والموقع الجيوسياسي ورغبة القوى الحاكمة. قد يكون هناك تطابق دستوري (أي في بنية النظام السياسي) بين فرنسا والسنغال مثلا، لكن هناك فرقا وظيفيا كبيرا بين النظامين. بل ان وظيفية النظام السياسي الفرنسي نفسه قد تتغير عندما يستلم السلطة الاشتراكيون او الجمهوريون مع بقاء البنية على حالها. ديغول مثلا قام بتجميد عضوية فرنسا في القيادة العسكرية لحلف «الناتو» وأقام نهجاً سياسيا دوليا مستقلا عن الغرب، بينما أعاد من أتوا بعده الارتباط الوثيق بين فرنسا والأسرة الأطلسية.
الأمر هنا لا يتعلق «بالسياسة الجارية» وإنما بوظيفية النظام نفسه. أجرى بشار تغييرا نوعياً في بنية النظام السياسي، وهو من وجهة نظر العلوم السياسية والمنطق السياسي أسقط نظامه تماما عبر الدستور الجديد الذي يتناقض مع الدستور القديم في منطلقاته الأساسية، أي في حقوق الوصول إلى السلطة ونهج الوصول إلى السلطة وفي حقوق القوى السياسية المختلفة وأدوارها. إنه تغيير في البنية، بمعنى تغيير في مواقع وأدوار العناصر المكونة وشبكة العلاقات بينها. من حيث علم السياسية ومنطق السياسة لا يختلف النظام السوري الجديد عن نظام فرنسا أو روسيا أو أي بلد فيه نظام شبه رئاسي. ويمكن لأي باحث أن يقارن بين الدساتير الثلاثة فسيجد أن الأصول والمنطلقات و«طريقة التفكير» واحدة وهي أصول ومنطلقات الديموقراطية المعاصرة مع كل حسناتها... وعيوبها.
أين المشكلة إذًا؟ ما دام بشار قد قام بالتغيير البنيوي لنظامه، فلماذا ما زال الغرب يعامله كطائر يغرد خارج السرب؟ مشكلة الرئيس السوري أنه قام بتغيير البنية، لكنه حافظ على وظيفية النظام، وأصر وما زال يصر عليها. الغرب يريد العكس تماماً: تغيير البنية كسبيل لتغيير الوظيفية. بل أكثر من ذلك، بالنسبة للغرب كان بشار يستطيع الاحتفاظ بالبنية القديمة، بل كان مسموحاً له ان يتحول إلى مستبد متسلط إلى الأبد، لو أنه غيّر وظيفية النظام. لقد دعم الغــرب بقــوة نظــام الديكتــاتور بيــنوشيه في تشيلي ضد نظــام سلفادور أليندي الديموقراطي لأن بينوشيه غير وظيفية النظام لصالح الولايات المتحدة. ويدعم الغرب اليوم أنظمة في المنطقة لأن وظيفيتها مناسبة لمصالحه على الرغم من أنها ـ من حيث البنية أي من حيث النظام السياسي ـ ليس لها علاقة بالأنماط السياسية في عالمنا المعاصر. أنظمة لا ينطبق عليها أي معيار من معايير الأنظمة السياسية المعاصرة. وهي أنظمة استبدادية بشكل فاق ديكتاتوريات أميركا اللاتينـية والدول الشـيوعية نوعياً. يصر بشار على ثبات وظيفية النظام في سياساته الإقليمية والدولية المعادية لتوجهات الغرب وسياساته، خاصة تلك التي تركز على الدعم المطلق لإسرائيل والعداء الحاد للمقاومة العربية. تمرد بشار على الغرب وسياساته، يعتبر حالة مدرسية مدهشة في عالم القطب الواحد. كل السوريين يعترفون بهذا، لكن هناك بعض السوريين الذين يقولون: ماذا لو أصبحنا أتباعاً للغرب مثل غيرنا، أليس هذا أفضل من الوقوف في وجه التيار؟ لعل هذا تساؤل قابل للنقاش في السبعينيات مثلاً،
وهو المنطق الذي برر فيه السادات توجهه نحو الغرب. لكن اليوم أصبح هذا التساؤل عبثياً حتى من وجهة نظر برغماتية، فجميع الدول ذات البنية الشبيهة بسوريا لم تصل حتى عتبة الازدهار الموعود، على الرغم من أنها وقعت اتفاقات مع إسرائيل إرضاء للغرب. كانت تجارتهم خاسرة، إذ إنهم أعطوا كل شيء ولم يحصلوا على شيء، بل ان سوريا اليوم غير مديونة، ودولهم تئن تحت وطأة الديون، في الوقت الذي يعيش فيه الفقير السوري بمستوى معيشي أفضل بكثير من فقراء الدول الموقعة. الخبز أرخص وأفضل، وكذلك العناية الصحية، ويستطيع الفقير السوري الذي عنده عشرة أولاد، أن يصبح نصفهم أطباء ونصفهم مهندسين من دون أن يكلفه ذلك قرشاً واحداً. هنا يجدر الانتقال إلى وظيفية النظام داخليا، أي أسس سياساته الاقتصادية والاجتماعية. هنا أيضا يبدو ثبات بشار وإصراره على الحلول الاقتصادية والاجتماعية غير الليبرالية، وإن كانت رأسمالية، بل إن هناك توجهاً لدى النظام لمعالجة نتائج الشطط الليبرالي الذي أتبعته حكومة العطري في العقد السابق، خاصة أن الليبرالية تتراجع على المستوى العالمي. هذه الوظيفية ايضا ليس لها علاقة مباشرة ببنية النظام السياسي، فالسويد وكندا الرأسماليتان أكثر اشتراكية واجتماعوية من سوريا مثلاً.