الجمعة، 23 آب، 2013
أوقات الشام
ماذا أفعل لأمة فقأت عيونها بيديها وهي تبحث عن حريتها وخلفائها وآلهتها .. ودك قلبها بالكفر والتكفير والتكبير وهي تحشوه بالكتائب المؤمنة وكتائب النكاح وكتائب الكذب .. وامتلأت شرايينها بالسم وهي تشرب من موارد حقوق الانسان وأباريق الديمقراطية .. وتكرع العدالة من جرار بان كيمون .. وبراميل سعود الفيصل ..
وماذا أفعل لأمة تطعم قلبها وكبدها للذئاب .. وترضع من ثدييها جراء الذئاب بدل أن ترضع أبناءها ؟؟ وماذا أفعل بأمة تتلذذ بالموت؟ .. بل ماذا افعل لأمة صارت بلا قلب وبلا كبد وبلا عقل وبلا أبناء وبلا حياة ولاحياء ..؟؟ نهشتها كل ذئاب الأرض حتى ملأت بطونها من قلبها وكبدها ولحوم أبنائها .. ومن لحم وجهها ..
ماذا تفعل أمة تكذب وأمة تفبرك وأمة تفقد شرفها أمام أمم الأرض وهي تمثل تمثيليات الموت بالسلاح الكيماوي للنظام السوري .. تمثيلية هزلية صارت مملة وممجوجة ومثيرة للملل .. ومثيرة للقرف والاحتقار .. هل رأيتم ذلك المجرم الذي يمسك طفلا رضيعا ويهزه كما يهز جزار دجاجة ويدعي أنه والده ليقول لنا ان بشار الاسد يقتل الأطفال؟ .. أب ليس في صوته حزن الأب ولاأسف الأب المفجوع ولاصراخ ولادمع الأب وليس في يده حنان الوالد .. مجرم بلا رحمة يقتل طفلا أو يعذبه من أجل صورة يهديها للعالم ليتسول بها .. ومصور حقير يصور موت طفل أو عذاب طفل لتقول أمم العالم اننا شعب من البربر والهمج يبيع صورة بريئة من أجل موقف سياسي دنيء .. هل هناك أمة في الدنيا تستمتع بهذا النوع من التصوير الا أمة منحرفة أخلاقيا وانسانيا وتعلم العالم احتقار العرب والقسوة عليهم؟؟ تمثيليات الموت بالسلاح الكيماوي الثورجية لن تشبه الا حكاية الموت بالمطر الأصفر .. وماأدراك ماالمطر الأصفر؟؟ أو كيمياء النحل الأصفر ..
ففي الثمانينات أثار الأمريكيون قضية استعمال سلاح كيماوي غريب من قبل حلفاء السوفييت في فييتنام الشيوعية ولاوس .. وكان صاحب الحملة وزير الدفاع الامريكي (الكسندر هيغ) الذي قال ان الروس زودوا حلفاءهم الشيوعيين الفييتناميين بسلاح كيماوي رهيب هو (ت2 ميكوتوكسين) الذي كان يسقط كالمطر الأصفر على المدنيين من قبائل (همونغ) الفييتنامية والكمبوديين انتقاما منهم لتأييدهم الغزاة الأمريكيين وتسبب في قتل مايزيد عن عشرة آلاف مدني .. وبالطبع هرع شهود الزور من مخيمات اللجوء وظهرت اجساد لمدنيين قيل انهم ناجون وقد غطتهم بقع صفراء ادعوا أنها من الطائرات والحوامات الشيوعية التي كانت تمطرهم بالمطر الأصفر .. وبكى العالم على شهداء المطر الأصفر .. لكن ظاهرة هطول المطر
الأصفر تكررت عام 2002 في الهند دون تفسير مما ألقى هلعا بين الناس من احتمال تعرضهم لحرب كيماوية .. وكان الأمريكيون يقولون ان صدام حسين في تسعينيات القرن الماضي قد أنتج كميات هائلة في معامله الكيماوية من مادة الميكوتوكسين الرهيبة التي ستودي بحياة مئات الآلاف من الأبرياء .. بالرغم من أن مخابر صدام حسين وجهوده لسنوات لم تتمكن من انتاج الا مايعادل سعة ملعقة واحدة فقط من هذه المادة القاتلة حسب ماكشف لاحقا .. ولكن المثير للسخرية أن معامل الابحاث والخبراء الأمريكيين أجروا تحليلا على عينات البقع الصفراء التي حصل عليها في فييتنام وتبين أنه ليس ميكوتوكسين بل مجرد .. براز النحل .. كما أثبت علماء البيولوجيا من جامعة هارفرد .. وأن القضية مجرد أداة من ادوات الحرب الباردة وماكينات الاعلام الغربي .. وظهر أن سر المطر الأصفر في المناطق التي قيل انها منكوبة بالسلاح الكيماوي هو أنها تعرضت لقصف شديد ببراز النحل الذي كانت أسرابه تهاجر في أسراب عملاقة هائلة الامتداد وتلقي بفضلاتها من الجو على تلك المساحات الهائلة..
من يتابع أحاديث الثوار عن السلاح الكيماوي يعرف أن العملية لاتختلف قيد شعرة عن قصف النحل للفيتناميين بالمطر الأصفر (براز النحل) .. فكل المشاهد المبثوثة تثير الريبة فقد جمعت الضحايا في غرف ولم يتم تصويرها في العراء مبعثرة كما صور حلبجة العراقية .. ولم نجد نفوقا للطيور والقطط والكلاب الضالة والحيوانات في الغوطة اثر قصف كيماوي قيل انه قتل 1300 انسان .. مثل ضحايا المطر الأصفر ..
وتبدو الرواية الروسية ربما قريبة الى الحقيقة وهي أن قذيفة بدائية كيماوية أطلقها المسلحون وسقطت في أماكن خاضعة لهم ولذلك لم يمكن رؤية مئات الجثث المبعثرة على الأرصفة وموزعة في البيوت لأن الغاية كانت اظهار اصابات يمكن تصويرها وبيعها الى مجلس الأمن .. ويعتقد مراقبون مستقلون أن القذيفة ربما أطلقها مسلحون بقصد اصاية الجيش السوري لكن سوء الرمي أوصلها الى معقل معارض بدليل نشرها قبل الحديث عن هجوم الجيش السوري بزمن طويل .. فتقرر استعمالها على وجه السرعة اعلاميا بعد تنسيق مع مكاتب اعلامية ضخمة مرتبطة بأجهزة استخبارات دولية..
لاأحد يعرف عن الترسانة الكيماوية السورية شيئا موثقا ودقيقا لأنها أسرار في بطن الظلام كما يصفها الغرب .. أو ان كانت هناك ترسانة أصلا .. ولكن وبالاستعانة بكتابات الاسرائيليين أنفسهم وعلى رأسهم موسي ماعوز مؤلف الكتاب الشهير (الأسد أبو الهول الدمشقي) ويقصد به الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي نشره في أواخر الثمانينات والذي كتب فيه عن قصة السلاح الكيماوي السوري .. وبالاستعانة بتقارير المخابرات البريطانية والفرنسية منذ التسعينات يمكن بناء تصور ما .. حيث يقال في تلك الروايات بأن الرئيس الراحل حافظ الأسد قد اتخذ قرارا بامتلاك سلاح رادع بعدما هدده الاسرائيليون عقب اجتياح قواته للجولان ووصولها الى بحيرة طبرية بأنهم سيلقون قنبلة ذرية على دمشق .. وحسب روايات الاستخبارات البريطانية فان الأسد طلب عقب الحرب في السبعينات سلاحا رادعا ذريا لا لاستعماله لكن لابقاء اسرائيل تقاتل مرغمة ضمن حدود السلاح التقليدي اذا ماتكرر سيناريو حرب أكتوبر .. لكن الروس رفضوا الطلب بسبب مااعتبروه تكرارا مخيفا لأزمة خليج الخنازير عندما وضعوا صواريخهم النووية في كوبا فجن جنون الأمريكان وكاد الأمر أن يتطور ليحدث اشتباك نووي دولي .. الا أن الروس وأمام الحاح الأسد في عهد يوري أندروبوف اقترحوا تزويده بسلاح رادع جبار لايقل عن السلاح الذري وقدموا له سلاحا كيماويا متطورا للغاية .. بحيث أن الاسرائيليين سيتعرضون لضربة شاملة مؤلمة تكفي لافراغ مدن كاملة اسرائيلية من كامل سكانها في 30 دقيقة لايضاهيها في أثرها الا قنبلة ذرية ..ولكن الروس حسب روايات غربية اشترطوا تعهدا بألا يستخدم أي مقذوف دون موافقة الجيش الروسي والقيادة الروسية الا في حالة ضربة ذرية على أرض سورية فالقرار عندها سوري مطلق .. مما جعل قرار استخدام السلاح مشتركا بين القيادة السورية والروسية عمليا .. وهذا ماجعل اسرائيل تحسب حسابا كبيرا للحرب مع سورية ..
لذلك اذا صحت هذه التقارير الغربية فليس من المعقول أن يضرب الجيش السوري مناطقه المدنية بسلاح شديد الفتك سيفرغ الغوطة كلها من سكانها خلال نصف ساعة ودون تنفيذ الاتفاق الدائم مع الجانب الروسي ..
ولكن ماحدث في الغوطة لايزال يلفه الغموض وتلفه قصص وشراشف الثوار المطرزة بالكذب الكيميائي وخيطان جهاد الكذب لاخفاء حقيقة ماحدث .. وحسب بعض التفاصيل التي لاتزال تمر شحيحة وضبابية فان الجيش السوري وأجهزة الاستخبارات رصدت واطلعت على خطة محكمة للمسلحين منذ عشرة أيام تقوم بدفع آلاف المسلحين عبر احدى النقاط الهامة في نقاط التماس مع الغوطة .. وكان من المفروض أن تندفع مجموعة كبيرة من الانتحاريين لفتح الثغرة .. ويسبقهم انتحاري سعودي بعربة مدرعة محشوة باطنان المتفجرات على طريقة مطار منغ لاحداث ثغرة كبيرة وهزة أمنية يستغلها المسلحون بالاندفاع السريع الى قلب العاصمة .. وقدرت أعداد المهاجمين بستة آلاف مسلح .. لكن الجيش رصد أن الاعداد لهذه العملية السرية والحشد العددي تسبب في كشف أجزاء من خواصر الغوطة التي يتحصن فيها المسلحون .. فقررت قيادة الجيش أن تجهز منطقة كمين تشبه منطقة الابادة بحيث يترك المسلحون ليدخلوا صندوق الموت .. وعند نقطة حاسمة يتم احراق المنطقة بنيران المدفعية والطيران .. وعندما تمت ابادة مجموعات الاقتحام دخلت قوات النخبة لتجهز على من تبقى .. ولم يخرج من صندوق الموت مسلح واحد .. وتقدر جثث المسلحين بين 4000 -5000 جثة ..والباقي تم اعتقاله ونقله الى معسكرات الجيش الخلفية .. وكانت هذه الفاجعة سببا في عويل الثوار وتبرير الهزيمة بسبب السلاح الكيماوي .. لكن الغرب وحلفاءه حاولوا استعمال حكاية السلاح الكيماوي للضغط على الجيش لايقاف هجومه الذي نقله الى المرحلة الثانية وهي مرحلة ملء الفراغ الرخو في الغوطة التي فرغت أجزاء كبيرة منها من المقاتلين الذين احترقوا في صندوق الموت ..فاندفعت القوات وملأت الفراغ واصطدمت مع المسلحين في أحشاء الغوطة وأحشائهم .. والجيش يتحرك غير عابئ بمسرحيات السلاح الكيماوي التي انتهت فاعليتها النفسية .. وابلغ الجانب السوري وسيطا غربيا نصحه بتهدئة المعركة كي تمر غضبة العالم من حكاية السلاح الكيماوي وقال له: ليفعلوا مافي وسعهم .. لن نبالي بالأكاذيب .. ولن نخاف الأكاذيب.هذا الموت المجاني للآلاف من الرجال والشباب يحكي عن أمة أصيبت بالجنون ودين صار يقتل أصحابه .. من أجل ماذا كل هذا الموت المجاني ..؟؟ ومن أجل ماذا كل هذا السعار؟؟ ومن أجل ماذا هذا الانغماس في الكراهية وهذه الفوضى والانتحار؟ هل يستحق شرع الله ودينه هذا الارتماء في التهلكة والموت من تونس الى ليبيا الى العراق وسورية وافغانستان؟؟ هل الله سيسعد بهذه القرابين المسلمة التي تسافر اليه كل يوم؟؟ ألا تحب السماء الا مذاق أجسادنا ونكهات أرواحنا؟؟ أما تعبت السماء من مذاقات أجساد العرب والمسلمين والشرقيين ومن تناول مشاوي الانتحاريين؟؟ حتى ابليس يتساءل عن سر هذا الشر الذي يوسوس في صدور الناس في الشرق .. ويتساءل ان كان هناك ابليس آخر متفوق عليه ويعمل من غير علمه..
يشبه حال العرب هذه الأيام حال الأمم التائهة وتقف نخبهم عاجزة عن فهم معادلة واحدة مما يحدث .. كل النظريات الموضوعة والمسكوبة لاتشبه الا سلالا يراد ملؤها بماء الواقع ..وهيهات أن تملأ السلال بالماء مهما سكب فيها .. لاشيء يمكن أن يفسر للعرب ماذا يحدث ولا كيف يخرجون من التيه الذي ضاعوا فيه .. يثير العرب الشفقة من بين شعوب الأرض .. وسيكونون مثار شفقة زنوج افريقيا في الأدغال قريبا .. فالعرب شعوب ثرية بالمال والذهب والعدد والتاريخ والجغرافيا لكنهم أتعس شعوب الأرض واكثرها معاناة وتشردا وأكثر شعوب الأرض انتاجا للاجئين وطوابير المسافرين المهاجرين ..وصاروا أكثر أمة مكروهة في الأرض .. والسبب ليس الديكتاتوريات بل لأننا أنتجنا أحقر نماذج للحرية وأحقر ثورات .. ولأننا غرقنا في طوفان النفط .. فقام النفط برسم حدودنا وذوقنا وطباعة دواوين الشعر والفكر وكتب الجغرافيا .. بل وطباعة السيرة النبوية والقرآن .. فغرقنا في اليم الأسود ووصلنا الى عالم العرب حيث المجتمع العربي مستنقع تغطيه قشرة رقيقة من الطحالب الخضراء تسمي نفسها نخبا .. ولكن كل حشرات العالم تضع بيوضها فيه ..
الأزمة السورية لم تكشف العيوب في الديكتاتوريات العربية بل العيوب في الشعوب العربية والاسلامية التي سيقت الى المذابح مذبحة اثر مذبحة .. وعقب كل مذبحة ينهض مثقفوها ويطلبون المزيد من أنخاب الحرية والمذابح ..
بعد مذبحة العراق الكبرى .. ومجزرة الجنوب اللبناني ومجازر غزة لم يخجل العرب ولم يثوروا على الغرب .. ولم يثوروا على أمراء الدم والزنا بل ثاروا على بيوتهم وأحرقوها وعلى حياتهم وقتلوها ودسوا رؤوسهم في رمل الحجاز ودسوا في جيوبهم المال الحرام .. ثم نهضوا ليكونوا شهودا على مجزرة الليبيين ليباركوها.. وأنشدوا بعدها الأناشيد لدعم مجازر السوريين ..
كنت أقلب كل الصحف والمقابلات علي أعثر على كلمة تحاول ان تكون جرس انذار ممن كانوا طحالب مثقفة أو تعزف أنغاما حزينة .. لكن الكلام كان طبولا للحرب الأهلية العربية وكل العقول كانت أحذية قديمة .. الكل كان مستميتا من أجل حرية الشعب السوري والكل كان نعّاقا كالغراب .. فنانون عرب وصحفيون عرب ورسامون وموسيقيون وممثلون .. الكل يريد أن يغمس اصبعه في دمنا كما يفعل ناخبو العرب عندما ينتخبون .. أصابع العرب الملونة بحبر الدم السوري مثل اصابع العرب في انتخاباتهم .. فهي تكاد تخص الشعوب الرديئة التي تمتهن الكذب ولايوثق بها .. اهانة واذلال اصبع الانتخاب الملون لاتقل عن ذل النخب العربية وهي تتسابق لغمس أصابعها في دم السوريين .. وهاهي تلك النخب اليوم تغرق في دم مجتمعاتها .. لأنها أكلت يوم أكل الثور الابيض .. ولأنها غمست اصبعها في دم عنقها عندما غمستها في دمنا ..
ولكن سأتجرأ اليوم على القول بأننا صرنا أقرب مانكون الى أهم مرحلة من مراحل هذا الكابوس .. وهي مرحلة اليقظة والاستفاقة والنهوض لشرب الماء البارد وقراءة المعوذات وهدوء القلب وسكينة الروح .. ولن اتردد في القول في أنها الفصل الأخير من الكابوس .. مارأيناه في الكابوس لن يزيله ضوء النهار القادم بسهولة لأن الكابوس سيسير معنا ويمسك ضمائرنا وأمزجتنا الى أيام مقبلة بلاكوابيس لكن مع ثقل ذكريات الكوابيس ..
لن أدخل في النبوءات بل سأدخلكم في الحقائق وسأجول بكم بين التواريخ والأحداث ..وسآخذكم في سياحة في الكابوس لتصلوا الى معرفة مايجب أن تعرفوه عن اليقظة والصباح القادم ..
يردد الكثير من المسؤولين الغربيين والعرب تشاؤمهم من الأزمة السورية وتطاولها ويتسابق الكثيرون في اطلاق مزايدات على عدد السنين التي ستمتلئ بها أخبار وعذابات السوريين .. يقول البعض عن سوء نية بانها تمتلك وقودا ومحركات ذاتية الدفع لخمسة عشر عاما .. ويزيد البعض على هذا الرقم .. ولكن مجرد ادخال الناس في هذا الشعور بالعدمية واللاجدوى واللانهاية هو طريق أخرى من طرق امداد الشعب السوري باليأس والقنوط والشعور بثقل الكابوس وانحباس الصباح .. ولكنه من جهة أخرى يعد نقيضا للاستعجال باطلاق نهايات سريعة ومبتورة للنظام السوري .. وهذه النبوءات اعتراف غير مباشر بأن النظام سيستمر عقدا أو عقدين حتى بوجود أزمة ..
ويذكرني هذا الكلام بمزاد سقوط النظام السوري الذي اشترك فيه العالم من اقصاه الى أقصاه ..ولم يبق ركن في الكوكب لم يعد ينتظر صوت ارتطام النظام بالأرض .. وكان العالم يعد مابقي في ساعة الرمل في حياة النظام حبة حبة .. الذي وصل الي تأكيدات يقينية أكثر من 11 مرة يفصل بين الواحد والآخر بضعة اسابيع فقط .. وأحدها أرسل رسالة ديبلوماسية عاجلة من باريس يقول: دمشق في الساعات الأخيرة..
فانتهى الحديث عن سقوط النظام السريع الى حديث مفاجئ عن تمدد الأزمة السورية الى سنوات تحت سقف النظام ..
ان الحديث عن سنوات مستمرة من الازمة على نفس السوية لم يعد منطقيا لاعتبارت كثيرة وهو تنبؤ فاشل أكثر فشلا من نبوءة سقوط النظام .. فالأزمة الداخلية قامت على مرتكزات كثيرة خارجية .. فهي مشروع خارجي وتعاقد مع قوى داخلية عديدة معظمها اسلامي الطبيعة ..لكن المرتكزات الخارجية الدولية ليست طارئة فالأمريكيون والغرب عموما جاؤوا الى المنطقة مباشرة عبر اسرائيل أو عبر الغزو المباشر للعراق ولبنان ولم يتوقفوا عند حدود سورية كرما وتعففا بل لأن الظروف لم تكن مواتية ولأن الحليفين السوري والايراني لعبا اوراقا بمنتهى المهارة ..
المرتكزات الدولية لم تكن ذات أثر على الداخل السوري .. لكن المرتكزات الاقليمية التي تنسق مع المرتكزات الخارجية الدولية هي التي كانت اصعب المعادلات .. فهناك العامل التركي وملاصقته الجغرافية والسكانية والدينية .. والعامل اللبناني عبر آل الحريري والمستقبل وعامل الجوار .. والعامل العربي عبر قطر والسعودية والجسم الاسلامي المتمدد .. ولولا العامل الاقليمي لما تمكن العامل الدولي من المناورة كثيرا في الأزمة السورية ..
لابد من ابعاد واضعاف العامل الاقليمي المحيط لارغام العامل الدولي على التراجع طالما أن الضغط على العامل الدولي غير متاح .. أي الضغط لهز الركيزة التركية والعربية (السعودية) .. وبالنظر بعين واعية الى العامل التركي لوجدنا أن من سابع المستحيلات أن يستمر هذا العامل على ماهو عليه الى سنوات .. فالعامل التركي ترهل ويعاني من الاهتزاز وقد نوه وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى احتمال كهذا عندما تطرق الى احتمال احياء جبهة الأردن كبديل عن الجبهة التركية التي قد تنهار بشكل مفاجئ .. فالأتراك صاروا امام خطر أزمة كردية صارت ناضجة .. وهم أمام انكماش تمدد الاخوان المسلمين الذي بدأ في مصر يتدحرج نحو تونس وغزة ..واكثر المتفائلين يرى ان اردوغان كلاعب مهم قد انتهى سياسيا رغم بقائه في السلطة .. وأن حزب العدالة والتنمية لم يعد له خيار الا التضحية به عاجلا أو آجلا لاعادة علاقات تركيا بمجموعة دول في مجال تركيا الحيوي دفعة واحدة هي: مصر وسورية وايران والعراق وروسيا .. وأردوغان صار رأسا ناضجا للقطاف وهناك عيون كثيرة ترمقه لتقطفه في لحظة مناسبة .. والخطوة المصرية التي ترعب أردوغان من نفس السيناريو (سيسي تركي) قد لاتشكل اغراء للجيش التركي ليتحرك بقدر ماانها اغراء لقيادات تحضر نفسها ضمن حزب العدالة والتنمية لقيادة تغيير مطلوب سياسيا وشعبيا .. والتغيير التركي المرتقب خلال أشهر قليلة سيفضي الى نهاية الجبهة الشمالية واضمحلالها .. ويبقى احتمال استمرار سياسة الحكام الأتراك الجدد على نفس النهج ضئيلا الى حد كبير ..لأن تركيا ليست فرنسا ساركوزي التي سلمت الراية الى فرنسا هولاند ..
العامل السعودي (الخليجي) الذي تقدم على العامل القطري هو العامل الذي يعتقد انه قادر على الاستمرار سنوات لأنه يملك المال والنبع الوهابي والقاعدة والرغبة الجامحة والقلق .. بل هو معني بشدة باستمرارها سنوات خاصة أنه لايزال بمنأى عن تأثيرات الحرب .. ولكن الاندفاع السعودي الأخير نحو الضاحية الجنوبية اللبناني وهستيريا القتل في العراق سيجد نفسه قريبا في مواجهة كبرى مع حزب الله وقوى عراقية وسورية في أرضه مباشرة كما يتنبأ البعض .. فخروج السيد حسن نصر الله واتهامه للقوى التكفيرية بالمشاركة في التخطيط لتفجير الضاحية لم يقصد بها أيمن الظواهري طبعا ولا أبا محمد الجولاني .. بل عنى به القوى الاستخبارية السعودية والخليجية التي تتورط في الحرب التكفيرية وتغذيها .. وقبل ذلك بأيام كان المالكي يصرح بأن الدول التي ترعى القتلة والارهابيين دون ان يمسها الموت لن تبقى تنعم بذلك الاستقرار ..وهذا يشير بقوة الى أن عملية اخراج السعودية قد تكون سرعت في انضاجها سرعة التهور السعودي في الضاحية الجنوبية .. ليرد عليها تحركات مماثلة على أهداف ثمينة سعودية .. فالأمر يبدو أن حزب الله صار مرغما عليه .. فكما أرغم على معركة القصير بعد تحسسه طرف السكين في ظهره من قبل المسلحين فانه سيخرج من داره للحرب بغير مشيئته ..
الدور السعودي صار أضعف مما يتخيل البعض بعد خصومته الشكلية مع تركيا وبعد تطور دور القوى المناوئة للاسلاميين عموما في مصر .. ولقاء بندر مع فلاديمير بوتين لم يكن كما يروج بأنه لشراء روسيا بل لبحث مقايضات بعد أن قدم الروس "نصائح قوية" للسعوديين أخذ بعضها شكل التحذير .. بندر لم يكن في مهمة شراء لأن قصص شراء الروس صارت سخيفة .. بل كان في زيارة يبحث فيها عن بيع منتجاته مقابل أن يغلق المحور السوري الايراني ملف التورط السعودي بالكامل وألا يتم تصفية الوجود السعودي في لبنان والعراق اذا ماانتهت المعركة بخروج المعارضة المسلحة السورية منها.. وتحصل تعهدات متبادلة بين السعوديين والسوريين والايرانيين والعراقيين وبضمانة روسية ..لكن لايبدو أن بندر كان موفقا .. لأن محور سورية والعراق وايران لم يحارب ويصمد من اجل أن تبقى اللوحة السياسية في لبنان والعراق وسورية كما كانت عليه .. ومن دون أن يدفع المتورطون اللبنانيون سلفا ثمنا باهظا لما ارتكبوه بحق السوريين ..ومن دون اجتثاث الوجود الوهابي والقوى السياسية العراقية الموالية للسعودية .. فالوجود السعودي في لبنان قد تقرر انهاؤه ..والوجود الوهابي في العراق قد تقرر استئصاله ..أما في سورية فسيتم جعله أثرا بعد عين خلال عمليات اعادة بناء المجتمع ..من غير وهابية ..
ولذلك فان تقديرات معظم من يتابع الاحداث تميل كثيرا للنظر الى الأشهر القليلة القادمة على أنها أشهر الحمل الأخيرة التي ستلد الشرق الأوسط الجديد بمحوره الثقيل المترامي الأطراف من طهران الى بيروت ..وتنكفئ السعودية الى رمال الربع الخالي .. واذا ماتمكن هذا المحور من استمالة القادة المصريين بحكم وجود العدو المشترك فان معادلة أخرى ستغير مذاق الشرق كليا ..
نحن في زمن يمكن بسهولة أن نطلق عليه اسم الحرب الأهلية العربية .. عرب يأكلون عربا ..وعرب يطعنون عربا .. وعرب يذبحون عربا ..دفع الغرب بالموجة الاسلامية لاغراق المجتمعات العربية بالفوضى لأن الصراع القادم لن يكون بين الغرب والشعوب العربية بل في الحرب الأهلية العربية الواسعة حيث تواجه القوى الوطنية والعلمانية ضغطا عنيفا من القوى الدينية التي ترى أن مشروع اقامة الدولة الاسلامية لن يكون الا بسحق القوى العلمانية وسحق العلمانية نفسها وكل التناقضات الأخرى .. وليس صندوق الانتخاب الا منصة ودفعة اولى لاطلاق العهد الاسلامي .. وهذا ماظهر في النموذج المصري الذي حاول ابتلاع المجتمع كله عبر حقنه بالاجراءات الاخوانية في سباق مع الزمن لبناء العهد الاسلامي حيث يذوب العلمانيون وبقية التيارات ..
لم يبق أمل للعرب للنجاة من هذه المذبحة الا عبر المنجاة السورية .. كما سفينة نوح ..انني أراها تحمل من كل امل زوجين اثنين .. أمل بالنصر وأمل بالحرية وأمل بمجتمع صحي ونقي بلا وهابية وبلا مرضى الطوائف وبلا ثوار الناتو وشيوخ الناتو ..بلا مجاهدي كذب .. وبلا مجاهدات نكاح .. بلا عثمانيين وبلا عربان وملوك .. وبلا قرضاويين .. وبلا حمساويين وبلا اخوان ..
فماذا افعل اذا كانت عيناي قادرتين على النظر في عين الليل .. وكنت أرى ضوء الشمس ينير قلب الليل ..
وماذا أفعل اذا كانت عيناي قادرتين على التحديق في عين الشمس وتحديها .. دون أن تحترقا ..
انظروا معي في عين الليل السوداء .. وفي عين الشمس الحارقة .. ولاتخافوا