سايكس ـ بيكو جديدة بنكهة سلفية إخوانية أصوليّة
شبلي بدر
لا يختلف مدركان على أن تقسيم العالم العربي، خاصة بلاد الشام، بعد الانتداب الفرنسي ـ البريطاني إلى دويلات هجينة، كان هدفه الأول الوقوف في وجه وحدة الهلال الخصيب واستعادة موقعه الطبيعي في المشرق العربي، وثانياً زرع الكيان السرطاني الصهيوني في قلبه ليكون حارساً لمصالح دول الاستعمار الغربي والأوروبي بعد ظهور «الذهب الأسود» في أكثر من منطقة، وما رافق تلك الحقبة من «حروب الأنظمة» للوقوف في وجه يهود العالم وعدم تمكينهم من تثبيت أقدامهم في فلسطين والفشل الذي منيت به تلك «الحروب» في كل محاولة. ومن أسباب ذلك الفشل أن المحاولين أنفسهم كانوا إمّا يتحركون بإرادات أجنبية أو لعدم درايتهم الكافية بما تخطط له دوائر الاستخبارات الغربية والصهيونية، أو بالتواطؤ معهم للإبقاء على مراكزهم في السلطة (تبيّن ذلك لاحقاً) التي لم يصلوا إلى سدّتها إلّا بمباركة من المستعمرين أنفسهم ولعلمهم الأكيد بأن أولئك المنصّبين حكاماً وأمراء لن ينقلبوا على من سلّطهم على شعوبهم وعلى مربّعات النفط يديرونها بحسب أوامر أسيادهم، وزد على ذلك، وهو الأصح لدى بعضهم، عدم إيمانهم المطلق وقناعاتهم التامة بما يفعلون، من دون التنكر لتضحيات مقاومين كثر استشهدوا على أرض فلسطين، بمعزل عن إرادات حكام تلك الدول المصطنعة أو احتضانها لهم، بل ضمن أحزاب وفصائل مقاومة نشأت معظمها على إرادة التحرير والاستقلال من نير الاستعمار، مع إيمان راسخ صلب بأن فلسطين أرض عربية لا يمكن التنازل عنها.
في تلك الحقبة السالفة، عملت دول المحور الغربي والصهيونية العالمية على زرع الشقاق والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد من خلال تغذية النعرات الطائفية والمذهبية، ولا يخفى على أحد من كان وراء بروز الحركات الأصولية والسلفية والتكفيرية في العالم أجمع وما هي أدوار الدول الحاضنة لتلك الحركات والأصوليات ومقاصدها المستقبلية والغاية من تمويلها وتسليحها وتدريبها، إذ راهنت على حكّام نصّبتهم على شعوبهم بالقوة والخديعة «الديمقراطية» التي تنادي بها بعدما أصبح تعداد التكفيريين والسلفيين يؤمن لهم تسلّم مقاليد الحكم كما حصل في مصر وتونس وليبيا، وبعدما وحّدوا محور الأعراب مع المحور التركي «الإسرائيلي». لكن الشعوب الحية، بمعزل عن أنظمتها، لا تستكين ولا تقبل الذلّ والهوان فتعثّر «الربيع العربي» في مصر وتونس وليبيا لأن الخط المقاوم من طهران إلى سورية وفلسطين فلبنان رفض الرضوخ وأبى الاستسلام للأعراب والتكفيريين والسلفيين المدعومين من المحور التركي ـ «الإسرائيلي». وما نشهده اليوم من إجرام وتدمير واستباحة للحرمات وسرقات ممنهجة لكل شيء في سورية والعراق ومن حشد غير مسبوق للمسلّحين والمجرمين على أراضيهما، بالإضافة إلى سوق السلاح الظاهر علانية في أكثر من منطقة في لبنان، خاصة في الحدود المتاخمة للدولة السورية ووقوف جهات معروفة وراء تلك الظواهر الشاذة والمفاخرة بها، بل في دعم تحرّكات بعض الفتنويين تحت شعار «المحافظة على حقوق بعض الطوائف والمذاهب» وليست له إلّا ترجمة واحدة ومعنى واحد هو خلق فتنة داخلية في لبنان تشكل امتداداً لما يحدث على الأرض السورية والعراقية، فتنة هي مقدمة لإعادة رسم خريطة المنطقة من جديد ومعاودة تقسيم الدول القائمة إلى دويلات طائفية ومذهبية وحتى عرقية تسهل على الاستعماريين الجدد استغلال الثروات النفطية المتزايد اكتشافها في هذه الدول، وآخرها في لبنان الذي تتسابق الدول الغربية والأوروبية في الآونة الأخيرة على كسب ود المسؤولين فيه، لأسباب معروفة ولا حاجة إلى دخول التفاصيل الأكثر شيطانية.
يوصلنا هذا التحليل الموجز والسريع لمجريات الأمور الحاصلة في بلادنا إلى استنتاج أن خطراً داهماً محدقاً يطل برأسه من خلال تسليح العصابات وتمويلها واحتضانها وتشريع وجودها من الأعراب أنفسهم، ويتعاظم الخوف والقلق أكثر فأكثر عندما نلاحظ أن هذا الوطن المترامي الأطراف ينزلق إلى الفتنة يوماً فآخر في ظل هجمة شرسة غير مسبوقة وفي ظل غياب أنظمة سياسية عادلة، فغالبية الأنظمة القائمة تدور على محاورها الطائفية والمذهبية وكل طائفة ومذهب يحسب نفسه دولة، وبدلا ًمن أن يكون «كل مواطن خفير» كما أراد وتمنّى الأديب النهضوي الراحل سعيد تقي الدين أصبح كل مواطن دولة يحلّل ويحرّم كما يشاء.
أما المقاومون الثابتون على إيمانهم ووطنيتهم وقوميتهم وعروبتهم، فلا يرون الحل الأمثل إلّا بالتصدي لهذه الزلازل المتلاحقة مهما غلت التضحيات، وبتضافر الجهود والتنسيق الكامل بين قيادات المقاومة والأنظمة الممانعة في كل من العراق وسورية وفلسطين ولبنان، بالتنسيق والتشبيك العملاني مع جميع الدول الصديقة والحليفة التي تتصدّى للاستعمار المتجدّد ومنعه من أن يأخذ هذا المشرق العربي إلى «سايكس ـ بيكو» جديدة تحت ذريعة «الديمقراطية» القادمة على صهوة السلفية والتفكير والتهجير والتدمير.
البناء