هل انتهى “الجيش السوري الحر”…؟
علي عبادي
رسميا، لم تعلن بعد وفاة “الجيش السوري الحر”، غير ان دوره تلاشى الى حد كبير، بسبب صعوبة تنظيم مجموعات تتنازع على الإمرة والتسليح و”المغانم” والهيمنة على موارد المناطق “المحررة”. إنه مصير ميليشيات لم يُكتب لها ان تتحول الى جيش يمثل بديلاً عن الجيش السوري برغم الرعاية الغربية والتركية العربية لها تدريبا وتسليحاً وتوجيهاً.
اجتياح عناصر “الجبهة الاسلامية” المشكلة حديثاً من ست جماعات مسلحة يطغى عليها التوجه السلفي مخازن أسلحة وأعتدة “الجيش الحر” على معبر “باب الهوى” مقابل الحدود التركية شكّل صدمة لكل من قيادة “الحر” ممثلة بسليم ادريس وداعميه من الغربيين وبعض العرب.
غزوة باب الهوى
كانت غزوة “باب الهوى” غير بريئة في نظر من يدعمون هذا الجيش، إذ اعتبروها محاولة لوضع اليد على الامكانات القتالية التي كانت مخزنة بانتظار توزيعها على المجموعات التي تتبع له في الداخل. حاولت جماعة “الجبهة” ان تبرر ما حصل بالقول إنه من باب دفع جماعات اخرى، في اشارة ضمنية الى مرتبطين بالقاعدة، عن وضع يدها على تلك المنطقة وما تحتويه من اسلحة وذخائر. غير ان تلك الحجة لم تقنع أحداً، خصوصاً ان الاستيلاء على مقر “الحر” وأسلحته وذخائره يعني عملياً توجيه ضربة معنوية شديدة له في نظر أتباعه أولاً، وإفقاده الكثير من إمكاناته القتالية ثانياً، والتحكم بمعبر أساسي تمر عبره إمداداته من طريق تركيا الى مقاتليه في الداخل ثالثاً.
وللوقوف على أهمية تلك المخازن، توضح مصادر معارضة انها تحتوي على مئات الأطنان من الأسلحة من مختلف الأنواع من ضمنها بضع دبابات والعديد من السيارات رباعية الدفع وقواذف محمولة مضادة للدروع وأسلحة رشاشة، الى جانب نحو مئتي طن من الذخيرة. وقد كان المعبر بمثابة نقطة تجميع لتلك الإمكانات قبل توزيعها، والاستيلاء عليها يوفر للجهة التي تصادرها قدرات هائلة على الصعيد التسليحي.
ولا يمكن فصل هذه الجولة من التنازع بين الجماعات المسلحة عن غزوة تنظيم داعش لبلدة اعزاز في تشرين الاول/ اكتوبر الماضي واستحواذها على مناطق محيطة، مقترباً من معبر باب الهوى الذي يمثل رئة تتنفس منها هذه الجماعات إمدادات تسليحية وأموالاً وتجهيزات مختلفة من الخارج، الأمر الذي استشعرت فصائل أخرى خطره. كما لا يمكن فصله عن فتك “داعش” خصوصاً بفصائل اخرى ومنها “لواء أحفاد الرسول” في دير الزور وجماعات عدة آخرها مجموعة حسن جزرة في حلب.
“الجيش الحر ينهار”
دفع الهجوم على معبر باب الهوى الادارة الاميركية لوقف معوناتها العسكرية “غير القاتلة” الى الجيش الحر، علماً ان وكالة المخابرات المركزية الاميركية زودته – وفق الصحافة الاميركية- بـ”كميات صغيرة من الأسلحة” لم يفصح عن نوعيتها ، وثمة من يتحدث عن وجود صواريخ مضادة للطائرات والدروع في المخازن المصادَرة. واحتار المسؤولون الأميركيون في وصف ما جرى، قال بعضهم إنه “انقلاب داخلي”، وفضّل آخرون عدم تصديق فكرة ان “الجيش الحر” ينهار فعلاً.
على أن توقيت غزوة “باب الهوى” ينطوي على مغزى خاص. فهو يأتي بعد نحو شهر على اجتماع تنسيقي بين “الجيش الحر” و”الجبهة الاسلامية” في اسطنبول يبدو انه انتهى من دون نتيجة كبيرة، واجتماع آخر موسع قرب انقرة بين “الجبهة” التي يقال إنها تلقى دعماً خليجياً، سعودياً رسمياً وغير رسمي، وبين ممثلين عن قوى غربية عدة من ضمنها الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا، وكان هدف القوى الغربية من الاجتماع هو الحصول على دعم هذه القوة المسلحة لحضور مؤتمر جنيف اثنين، الى جانب فتح قناة اتصال مع الجبهة المولودة حديثاً للوقوف على إمكانات التنسيق مستقبلاً في شأن الوضعين الميداني والسياسي. أما “الجبهة” التي جاء الاجتماع بطلب منها، وفق صحيفة وول ستريت جورنال، فقد كانت تسعى الى الحصول على اعتراف غربي بها وربما تعزيز إمكاناتها التسلحية، أسوة بـ”الجيش الحر”، في وقت يقول “الائتلاف الوطني” ان الجبهة أفضل تسليحاً وتمويلاً من “الحر”. فهل جاءت ضربة “الجبهة” لـ”الحر” لتعكس محاولة منها لإقناع القوى الغربية بأنها تمثل البديل الصالح عنه، أم ان ما جرى تعبير عن فشلٍ وحسب في التواصل بين جناحي المعارضة المسلحة المقبولة غربياً ؟
المعركة على اقتسام “التركة”
منذ إعلان اميركا وروسيا في ايار/ مايو عن العمل لعقد مؤتمر جنيف اثنين سعياً الى تسوية للأزمة السورية، ارتفعت وتيرة الصراعات الداخلية بين الجماعات المسلحة في سوريا، بداية ً بين تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش” ومعه “جبهة النصرة” وفصائل اخرى وبين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في محافظات الحسكة والرقة وحلب، مروراً بمساعي “داعش” للإستحواذ على مقدَّرات ومقرات الفصائل الاخرى في دير الزور وحلب وادلب وريف اللاذقية الشمالي، وصولاً الى ولادة “الجبهة الاسلامية” رسمياً في تشرين الثاني/ نوفمبر ومباشرتها سجالاً علنياً مع “الائتلاف الوطني” ودعوتها الى اعادة تنظيم الائتلاف وتقاسم أسلحة “الجيش الحر”. وبدا ان هناك جهوداً محمومة لإعادة ضم وفرز قوى المعارضة بهدف تجميعها من أجل الاستحقاقات العسكرية والسياسية الآتية وفقاً لأجندات اقليمية ودولية متباينة.
فتنظيم القاعدة ممثلاً في “داعش” خصوصاً يسعى بقوة للهيمنة على المعابر الحدودية والموارد الحيوية المهمة الى جانب إضعاف الجماعات الاخرى واستقطاب مقاتليها زرافات ووحداناً بهدف جعل إمارة العراق والشام أمراً واقعاً لها فيه وحدها الأمر والنهي. عملياً، توسع التنظيم في سوريا بصورة ملحوظة في الرقة والحسكة ودير الزور وصولاً الى ريف حلب الشمالي ومدينة حلب نفسها وريف ادلب الذي يحتل أهمية خاصة لوجود معبر باب الهوى الذي يمثل البوابة الرئيسية لتسلح المعارضة عن طريق تركيا. وتلفت مصادر عراقية الى ان التنظيم القاعديّ بدأ فعلاً العمل في صحراء الانباء وبعض مناطق نينوى (الموصل) القريبة من الحدود السورية لإقامة الجزء العراقي من الإمارة.
وعلى هامش جهود “داعش” الشرسة للفوز بمعركة التمهيد للإمارة الموعودة، نشب نزاع مرير بينها وبين “جبهة النصرة” التي تآكل جزء من عديدها البشري بفعل استقطاب قسم منهم من قبل “داعش” لا سيما في المحافظات الشرقية التي تُعتبر امتداداً لدولة القاعدة في العراق. ولم تنفع رسالة أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة في تهدئة هذا النزاع وتحجيم طموحات أبي بكر البغدادي زعيم “داعش” الذي أعاد سيرة أبي مصعب الزرقاوي في رفض أوامر أسامة بن لادن.
أما “الجبهة الاسلامية” فقد تأسست على خلفية الشعور بخطر “داعش” من جهة، وتفكك المجموعات المنضوية تحت لواء “الجيش الحر” من جهة ثانية، والحاجة لتأسيس قوة ذات وزن من مجموع قوى تتشارك خلفية عقائدية وتلقى قبولاً عربياً ودولياً من جهة ثالثة. وهي الأخرى بدأت ترى أنها الأحق بوراثة “الجيش الحر” اذا كانت وفاته أمراً محتوماً. وعجّل موقف “الحر” المتردد والضعيف في شأن المشاركة في جنيف 2، اضافة الى عدم قدرته على قيادة الجهد العسكري في حمص وريفها ابتداءً من القصير وفي السفيرة بريف حلب الشرقي وفي الغوطة الشرقية، في تصعيد مطالبة بعض الفصائل المدعومة خليجياً مثل “جيش الاسلام” و”أحرار الشام” بمشاركة “الحر” في قسمة السلاح والقرار السياسي. لكن هذا الإطار الجديد، الذي يتبنى رؤية سلفية ترفض الانتخابات والبرلمانات والديمقراطية ويقول إنه يحتكم الى “شرع الله” وحسب، يصعّب الامور على “الائتلاف الوطني” الذي يمثل مظلة سياسية مقبولة من الغرب وعلى “الجيش الحر” الذي يُعتبر جهة مسلحة “موثوقة”، كما تقول واشنطن عن رئيس هيئة أركانه سليم إدريس.
وينظر معارضون محسوبون على “الائتلاف الوطني” و”الجيش الحر” الى “الجبهة الاسلامية” على انها تسعى لتقويض الائتلاف والوصول الى “رأس هرم السلطة”.
الأولمبياد الدموي وأفضل الخياراتيطرح الهجوم على مقر “هيئة أركان الحر” جملة تداعيات واحتمالات:
يتضح بشكل فج غير قابل للتأويل أن واجهة “الجيش الحر” لم تعد مُقْنِعة للمعارضة السورية المسلحة بمختلف تلاوينها وأن أوان استبدالها بمسمَّيات واقعية أصبح ضرورياً، خصوصا في ضوء حالة التشرذم والفساد وتعدد الولاءات داخل هذا “الجيش”. ولعله لم يكن من باب الصدف ان انهيار “الحر” او تراجعه الى الخلف جاء في الدرجة الأولى بسبب داعميه الإقليميين الذين فضلوا عقد علاقات زبائنية واستتباع مع فصائل تعمل تحت لوائه بدلاً من المرور عبر قيادته وتعزيز كلمتها.
هناك سباق متزايد بين الفصائل المتشددة بمختلف ألوانها على اقتسام تركة “الجيش الحر” لناحية الأفراد والسلاح، ويجري الإستقطاب بطرق مختلفة: التهديد وعروض القوة والقتال والإقناع والترغيب بالمال والإمرة. وثمة مجموعات كاملة او منقوصة تنتقل من كتف الى آخر بحسب سيادة الأقوى في مناطق وجودها.
بروز قوى متشددة على الساحة العسكرية يثير أسئلة عن مآل الأمور سياسياً وعسكرياً في المستقبل القريب. سياسياً، يصبح الحديث عن جنيف 2 وعن تسوية سلمية أمراً من باب الترف في ضوء الطروحات الجذرية لهذه القوى التي تتغذى من بيئات إقليمية دافئة الحضن أيديولوجياً ومالياً إذا لم نقل استخباراتياً. وعلى المستوى العسكري، يبدو أن “الأولمبياد” السوري المسلح أصبح في نصف النهائي بعد هزيمة “الجيش الحر” وفرار قادته أمام جحافل “الجبهة الاسلامية” او “داعش” او “النصرة” أياً كانت التسميات، فالتنظيم الذي لا يحسن الدفاع عن مقره العام ومستودعاته الرئيسية ينعى نفسه بنفسه. وفي نصف النهائي من السباق الدموي على الإمرة، تقف “الجبهة” أمام “داعش” التي تتربص بالجميع لإخضاعهم لولاية “الدولة الاسلامية” وأمرائها. مع ملاحظة ان “داعش” تتصرف في مناطق انتشارها على أساس أنها “دولة” مبسوطة اليد تتصرف في كل شيء وتسري أحكامها على الفصائل الأخرى، ومن أبى يواجَه بالقتال باعتباره خارجاً على قوانين الإمارة. أما “الجبهة” فتتحرك بنَفَس سوري تكسوه خلفية سلفية بنكهة خليجية تبعاً لمصادر التوجيه والدعم، وهي تدرك ان ممارسات “داعش” في الهيمنة والتسلط ورفض الآخر أياً كان ستؤدي الى صدام عاجلاً او آجلاً. وقد تجد “الجبهة الاسلامية” ان من الصعب رفض وظيفة مجابهة نفوذ “داعش” ما دام ان داعميها يريدون لها مواجهة القاعدة في نهاية المطاف.
في المحصلة، تبدو سيناريوهات الوضع في سوريا شديدة الغموض. وإذ لم يعد إسقاط النظام في المدى القريب هدفاً أميركياً لهذا السبب، تفترض الصورة الحالية إعادة تعويم العلاقات الدولية للنظام بشكل أو آخر. حتى ان دوائر أميركية باتت ترى ان انتصار الأسد “هو الخيار الأفضل من بين سيناريوهات مرعبة جداً” تتضمن كذلك تفتت سوريا وما حولها او استمرار المعارك الى ما لا نهاية، كما أشار مايكل هايدن المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (2006-2009).
المنار