مقارنة بين البداية والنهايات .. من قمة القاهرة الأولى إلى قمة الدوحة
طلال سلمان
هل وصلنا إلى القعر؟ اختفت ملامح «العدو» عن الكيان الصهيوني. صار لكل دولة ما يكفي من الأخوة ـ الأعداء. الجامعة العربية باتت في عهدة قطر بتفويض عربي، لأنها الأغنى، وصارت «المرجعية العربية» الأولى وصاحبة القرار في الأمور العربية جميعاً
تستحيل المقارنة بين القمة العربية الأولى التي انعقدت بدعوة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، وبين القمة العربية التي انعقدت قبل أيام في الدوحة وبرئاسة أميرها الشيخ حمد بن خليفة.
كان الهدف المعلن من الدعوة لعقد القمة الأولى: حماية الأمن القومي العربي، وتعزيز قدرات «دول الطوق»، في المشرق، للدفاع عن حدودها وبالذات عن أجوائها التي كانت مفتوحة كلها، أمام الطيران الحربي للعدو الإسرائيلي، ومنع هذا العدو من تحويل روافد نهر الأردن، بما يحرم دول حوض هذا النهر من الإفادة من مياهه الشحيحة أصلاً.
ولقد أعقبت القمة الأولى قمة عربية ثانية في العام ذاته أقرت إقامة قيادة عربية موحدة لجيوش الدول العربية، المحيطة بفلسطين عقد لواؤها للفريق علي علي عامر، وإقرار موازنة للتسليح نال منها لبنان (والأردن) حصة ممتازة، لا سيما في مجال حماية أجوائه من غارات الطيران الحربي الإسرائيلي، وقد كان يتجول في سماء مفتوحة… (كان بين ما قدمته هذه القيادة المنبثقة عن القمة شبكة رادار متطورة ومعها صواريخ كروتال وطائرات حربية فرنسية من طراز ميراج، ما كان ممكناً الحصول عليها لو لم يكن الجنرال ديغول رئيساً لفرنسا).
أما قمة الدوحة فقد كان هدفها المباشر: استكمال الحشد السياسي وتعزيز قدرات المعارضات السورية المدنية والعسكرية، بعد إجبارها على التوحد، بالإغراءات المختلفة والتهديدات المعلنة، من اجل التعجيل بإسقاط سوريا ورئيسها بشار الأسد، بأي ثمن، بعد تحميله مسؤولية المذابح الفظيعة التي تتوالى منذ عامين طويلين، فضلاً عن تدمير هذه الدولة التي طالما وصفت بأنها «قلب العروبة النابض».
لكم اختلفت صورة «العرب» اليوم عنها قبل نصف قرن، فمن قمة فرضها الواجب القومي بالاستعداد لموجهة العدو الإسرائيلي في مشاريعه التوسعية (قبل أن يستكمل احتلال فلسطين جميعاً وأراضي بعض الدول العربية الأخرى في هزيمة 1967)، إلى قمة تتجرأ على «طرد» دولة مؤسسة للجامعة، هي سوريا، وتقديم مقعدها لمعارضة تختلف فصائلها في ما بينها على من هو صاحب الحق بأن يشغل المقعد المفرغ من صاحبها الأصلي.
لقد سجل الشيخ حمد «السابقة»: استطاع أن يفرض «رئيساً مفترضاً لسوريا الجديدة غير رئيسها القائم بالأمر حتى الساعة،… كما استطاع من قبل أن يشكل «حكومة» للمعارضات المختلفة، سياسياً وعقائدياً وفكريا!
ثم استطاع أن يفرض على «الحكومة» رئيساً من خارجها تماماً، لا يعرفه «قدامى المعارضين» الذين تصدروا الواجهة الباريسية لفترة، كما لا يعرفه الشعب السوري لأنه مقيم في الولايات المتحدة الاميركية منذ أكثر من ربع قرن… وبعد ذلك، وربما لأسباب خارجة عن إرادته، اضطر إلى التسليم برئيس جديد ثم تنصيبه فوق الحكومة ورئيسها المجهول.
وهكذا تقدم الشيخ معاذ الخطيب، وهو إمام مسجد وابن إمام المسجد الأموي في دمشق، بخطى ثابتة، وشق صفوف الملوك والرؤساء إلى حيث المقعد الفارغ، فاحتله وسط موجة من التصفيق، وتم تبديل علم الدولة المعنية، ببساطة، وكأن هذا الأمر يمكن حسمه، هكذا، بإشارة من الشيخ الذي كان في تلك اللحظة رئيس القمة، و«رئيس» العديد من الرؤساء والمشاركين فيها والذين كان يصعب عليهم القدوم لولا أن تيسر من يؤمن لهم الانتقال والعودة والمصاريف اللازمة والهدايا المناسبة والمكافآت التي تعوض جهودهم.
حصل كل ذلك أمام العالم كله: منح مقعد سوريا لقادة قوى معارضة، مختلفين في ما بينهم، لا يعرف السوريون معظمهم لطول استقرارهم في الخارج، قد يكون بعضهم عظيم الأهلية، وقد يكون لبعضهم تاريخ مضيء في النضال الوطني، لكنهم بمجموعهم لا يشكلون «وحدة» ولا «جبهة» وخلافاتهم علنية، وارتباطات بعضهم بالخارج أوضح من أن تخفى.
تحفظت قلة من الدول العربية، أبرزها الجزائر والعراق، ولاذ لبنان بالصمت متبعاً شعاره الأثير»النأي بالنفس»، وانشغل الرئيس المصري بالهجوم على من يحاول التدخل في الشؤون الداخلية لمصر.
أما الأمين العام لجامعة الدول العربية فقد حاول تبرير الوضع الشاذ الذي انتهت إليه الجامعة بأنه نتيجة لرفض الدول العظمى إحالة موضوع سوريا إلى مجلس الأمن الدولي، لعلها إن تدخلت تنجح في ما عجزت عنه الجامعة فتوقف الحرب المروعة في سوريا بين نظامها والمعارضات المختلفة ، باستثناء تلك المجموعات من المثقفين وأصحاب الرأي الذين دفعوا مرات ومرات الثمن الباهظ لمحاولات نصحهم النظام بإصلاح ما فسد فيه وترشيده إلى تجنب الحرب في ضرورة التغيير.
الأمر لا يتصل بالنظام السوري ومعارضاته وجدارتها بتمثيل الشعب الذي يتعرض إلى مذبحة هائلة منذ سنتين طويلتين، بل العجز الفاضح لجامعة الدول العربية، والهيمنة الفاضحة لدولة صغيرة جداً ولكنها هائلة الغنى في أن تسيطر على القرار في هذه المؤسسة العريقة التي كانت تشكل المرجعية الصالحة لتسوية الخلافات العربية ـ العربية، والتي لم تكن لتسجل على نفسها القصور والتقصير، بل الاستقالة من واجبها، والتحول إلى دائرة تصديق على «القرار القطري» بإحالة كل من يخالف قرار الدوحة إلى مجلس الأمن الدولي.
السؤال عن الدول العربية الأخرى، المؤسسة للجامعة، وبالذات مصر، ثم الدول العربية الكبرى وصاحبة النفوذ، والتي تخلت عن دورها، فصارت تبدو وكأنها فوضت قطر و«الحَمَديْن» بأمور الأمة جميعاً.
لقد كان موقف الرئيس المصري دفاعياً وإن اعتمد لهجة الهجوم محذراً «الآخرين» من التدخل في شؤون مصر الداخلية… ولقد فهم كثيرون في كلماته إشارة إلى قطر وطموحاتها غير المحدودة، وربما أراد آخرون أن يفهموها رسالة غير مباشرة إلى السعودية،
وإن كان ثمة من فهم ان التهديد موجه إلى المعارضة في الداخل المصري، ولو من الخارج.
في أي حال، فليست هذه المرة الأولى التي تتبدى قطر وكأنها «المرجعية العربية» الأولى وصاحبة القرار في الشؤون العربية جميعاً.
ومفهوم أن الانقسام داخل السلطة في العراق يضعف موقف بغداد وقرارها المحاصر بالضغوط الاميركية والضغوط الإيرانية المضادة، وربما لهذا تبرعت بدور «الوسيط» فلما لم تحظ بقبول واسع من الطرفين توقفت عنه، وإن ظل يطاردها الاتهام بأنها تجنبت موقفاًُ يستفز إيران.
ومفهوم أيضاً أن الجزائر تحاول، في الآونة الأخيرة، أن تتجنب المواقف الحادة وتفضل دور «الوسيط»، وإن ظلت متهمة بالانحياز إلى النظام السوري، اخذاً بالاعتبار تاريخ العون الذي قدمه الشعب السوري خلال الثورة، ثم بعد انتصارها وقيام الدولة المستقلة، لا سيما في تعريب المناهج والكتب المدرسية والتدريس.
خلاصة الكلام أن القمة العربية في الدوحة قد قدمت صورة مبكرة لعورات النظام العربي ومباذله، فالإمرة للأغنى وليس للأعرق والأكبر، والقرار للأقرب إلى الإدارة الاميركية والأبعد عن معاداة إسرائيل.
وثمة من يتندر فيقول إن علاقات قيادة قطر سوف تتأثر سلباً بإسرائيل بعد شهر العسل الطويل، نتيجة لاكتشاف الكميات الهائلة من الغاز في المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة، والتي ستجعل إسرائيل مُصدراً منافساً لقطر، وإن كان ذلك سوف يتم على حساب لبنان وسوريا ومصر، فضلاً عن فلسطين المحتلة ذاتها… ومعروف أن إسرائيل «تصادر» شاطئ غزه والمياه الإقليمية أمامه، وتلحقها ببحرها المصادر بدوره.
السؤال: هل تبقى للقمة العربية، فضلاً عن جامعة الدول العربية، أي دور في السياسة العربية، أم صار القرار فيها لأغنى أعضائها حتى لو كانت اصغر دولها؟
لقد اختفت ملامح «العدو» عن الكيان الصهيوني، ولم يعد كثير من المسؤولين العرب يستغربون المزاح الإسرائيلي الثقيل عن احتمال التقدم بطلب انتساب إلى جامعة الدول العربية، لا سيما أن أكثرية هذه الدول قد أسقطت عنه صفة «العدو».
صار لكل دولة عربية ما يكفي من الإخوة ـ الأعداء،
وقد غادرت الجامعة دورها العتيد منذ زمن بعيد، وصار قرارها للأغنى وليس للأكبر أو لصاحب التاريخ والدور والتضحيات من اجل حفظ هوية الأمة وقدرتها على حفظ حقوق شعوبها.
وها ان القمة الأخيرة لا تجد ما تقدمه لشعب فلسطين إلا التذكير بالمبادرة السعودية لمناسبة تجاوزها سن العاشرة (أقرت في قمة بيروت في العام 2002)، مشفوعة بهدية قطرية تشكل تحدياً لسائر أعضائها الفقراء: إذ قدمت قطر، فوراً، مبلغ مئتين وخمسين مليون دولار من اصل مليار دولار قررتها القمة (والمعنيون يعرفون أن المال لن يصل إلى الذين يحتاجونه في الأرض الفلسطينية المحتلة).
هذا بينما إسرائيل تواصل الضغط على أهل الضفة الغربية الذين يعيشون على «صدقة» تدفعها بعض الدول الغربية، وهبات هيئات تقدمها بعض الدول العربية، في حين تمضي قطر في تحويل غزة من قاعدة لحماس إلى مشروع مونتي كارلو تفيد في اجتذاب السياح، بعد تدجين الإسلام السياسي بالدولار المعزز بالحصار، وألف رحمة على شهداء التحرير.
مع كل قمة يتساءل المواطن العربي: هل وصلنا إلى القعر، أم ما زال علينا أن نقدم المزيد من التنازلات، لإثبات جدارة دولنا بأن تكون دولاً حقاً، وجدارة هذه القيادات بان تقودنا إلى مكان ما غير فقدان المكانة والدور… والهوية الجامعة؟
السفير